مدخل القصرية

مدخل القصرية
مدخل القصرية

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2010

فان جوخ


من حياة الفنانين والأدباء
فان جوخ
أسمه فنسنت فان جوخ كان يعيش في حجرة استاجرها وهو في مطلع شبابه في شقة احدى الأسر بلندن .كانت تلك الأسرة مكونة من أم وابنتها المسماة أرسولا . كانت أرسولا لطيفة مع فنسنت  ،مما جعله يتعلق بها ويحبها بكل جوارحه .ولكن المسكين صدم عندما علم ان حبيبته مخطوبة لشخص غائب عنها منذ فترة طويلة . فأخد في الالحاح عليها بأن تزهد في خطيبها ، وأن تفسخ عرى تلك الخطبة معه، وترتبط به هو لأنها لابد تحس بنفس مايحس به من حب ووجدان دافق نحوها. ولكن لشد ماكانت الصدمة عنيفة اذ تعمد أرسولا الى صده بقسوة واصرار .ولكن صدها له وقسوتها عليه لم تكن لتزيده الا تعلقا بها وملاحقة لها. وقد أدى اصراره على ربط حياته بها الى طرده من المنزل بطريقة معيبة ومزرية .
انتقل فنسنت فان جوخ الى حجرة أخرى في شقة امرأة عجوز وظلت صورة حبيبته أرسولا تطارده وتلح عليه سواء وهو في حجرته الجديدة أم في عمله كبائع للصور والتحف الفنية في محل كان يملكه أحد أقربائه في لندن ، ولكنه كان برما بالكثير من السلع الفنية المعروضة للبيع بذلك المحل . وكان يبدى دهشته بل وانتقاده للزبائن الذين يسيئون الاختيار فيقعون على الصور والتحف القبيحة في تقديره بينما يعزفون عن الصور والتحف الجميلة في تصوره وحسب ذوقه .فكان بذلك فنانا وليس تاجرا، مما اضطر مدير المحل الى طرده في نهاية الامر لانه كان غليظا في نقده لأدواق الزبائن.
وقد تواكب مع طرده من عمله زواج أرسو من خطيبها. فقرر فان جوخ مغادرة لندن وقد حصل على وظيفة مدرس في بلدة رامسجيت، وهى بلدة ساحلية على بعد أربع ساعات ونصف من لندن. وبعد عدة شهور وجد وظيفة أفضل في مدرسة جونز الارسالية الدينية في ايلورت، وكان جونز قسيسا فاقنع فنسنت بأن يصير قسيسا قرويا.
بعد ذلك أخد فنسنت طريقة الى مناجم الفحم حيث عمل هناك قسيسا وواعظا،وعكف في تلك الفترة على قرأة المكثفة الى ان وصل في النهاية الى درجة من التشبع لم يعد بعدها يطيق مشاهدة إي كتاب ، وفي أحد ايام نوفمبر الصافية جلس على عجلة حديدة صدئة يراقب عمال المناجم من البوابة ،فشاهد أحد عمال كانت قبعته السوداء تظلل عينيه ،وكتفاه منحنيين وقد دس يديه في جيبي سترته وركبتاه الكبيرتان بارزتان الى الخارج ،فجدب منظر الرجل انتباه فان جوخ وأثار به رغبة ملحة في رسمه، فأخد  يفتش في جيوبه ووجد القلم الرصاص وخطابا كان قد وصله من والده وبه صفحة بيضاء ، فأخد يعبر عن انطباعه الفني بأن رسم ذلك المخلوق بسرعة ، وكانت هذه نقطة البداية في قصة فان جوخ مع الرسم .
وبعد أن عاد فان جوخ الى الدار التي كان يقطنها وجد بالمصادفة فروخا عديدة من الورق النظيف الابيض وقلما ثقيلا فعكف على الرسم حتى غابت الشمس وخيم الظلام على الحجرة وهو منهمك على الأوراق يرسم عليها.
ومنذ ذلك الحين انتقل الفنان بنشاطه ووجدانه من المجال الديني الى رسم كل ما كان يثير خياله من شخصيات وأشياء ومواقف وعلاقات . كان يلجاء الى القراءة . وكان يحب المناظر الخلوية حبا جما ، ولكنه كان يرسم بحب الدراسات المشتقة من الحياة .
عاد فان جوخ الى اسرته ودأب على الرسم ،وقد قام برسم شقيقته ويليمين وهى أمام ماكينة الخياطة كما رسم صورة الرجل ذى الفأس خمس مرات ،ورسم رجلا يعزق الأرض في أوضاع مختلفة، ورسم باذر الحبوب مرتين ، والفتاة ذات المكنسة مرتين ثم رسم امرأة بقبعة بيضاء كانت تقشر البطاطس ، وراعى الغنم وقد كان منحنيا على اغنامه، وأخيرا رسم فلاحا عجوزا مريضا كان يجلس بالقرب من المدفأة ،ورأسه بين كفيه وقد أستند بكوعه على ركبتيه ، ورسم الحفارين وحارثي الأرض من الجنسين ، وكان مايشعر به أنه يجب أن يرسم بلا توقف ، وأنه يجب أن يلاحظ وان يسجل مايمت الى الحياة الريفية بصلة .
ونشأت علاقة حب قوية بينه وبين ابنة عمه الارملة وأسمها كاى وقد صارت ملهمته فيما صار يقوم برسمه، وكان تشجيعها له في صمت وقد كانت تنصت الى كلامه وتشجعه على التعبير عما في نفسه من آمال وأحلام تتعلق بفنه . وكانت كاى وجان طفلها الصغير يصحبان فنسنت كل يوم الى الحقول حيث كان ينصب حامله بينما كان يظل جان يلعب في الرمال زكاى تقراء في كتاب . وكان فنسنت يعكف على الرسم في انهماك وصمت وتدفق.
ولكن علاقة الحب بينه وبين ابنه عمه كاى لم تكن هى الاخرى بأفضل من حبه لحبيبته الأولى أرسولا. ذلك أنه عندما فاتحها بحبه هربت منه وأحتقرته وصدته عن طريقها بمقت شديد . ولقد أكتشف فنسنت ان سبب صدها له  هو إنها ابنة عمه من أول درجة وأن هذا لا يسمح له بالزواج منها وفقا للتقاليد الذائعة في اسرته . وذهبت كاى من حياته ولكن فقدانه لها كان بمثابة ضربة قاصمة للظهر لأن ذلك الصد الذي لقيه منها قد أنضاف الى صد حبيبته الأولى أرسولا له . ففقد الثقة في نفسه وأخد يتجه نحو أحتقار شخصيته.
وتعرف فنسنت بعد ذلك على إحدى الساقطات اسمها كريستين، ووجد لديها الحثالة من العطف الذي كان بحاجة اليه بعد أن صدم في حبه الصادق مرتين . أتخذها فنسنت موديلا يقوم برسمه ، وقد قامت بجلب شخصيات أخرى ليرسمها . وبعد ان استرد الفنان بعض الثقة بنفسه ، صار يعمل كل يوم لمدة أطول مما اعتاد عليه ،كما صار يبذل جهدا أكثر . ولكنه أخذ يفقد شهيته للطعام وربما ظل طوال الليل يؤرقه السهاد ويفكر في الاشياء التي ينبغي أن يعملها . وبينما كانت قواه تخور ، كان انفعاله يشتد، وسرعان ماصار يعيش على طاقته العصبية . وربما تقلص جسمه في هيكله العظمي وتغشى العينين ضبابة قاتمة . وكلما أستبد به التعب أستمات في العمل . وربما أشتدت به النوبة العصبية التي كانت تتملكه، وكان يدرك بفكره الوقت الذي سوف يستغرقه لينتهي من اللوحة وقد صمم على أن ينتهى منها خلال اليوم نفسه . كان كرجل تقمصه ألف شيطان بينما كانت أمامه سنوات لاتمامها. ولكن شيئا ما كان يرغمه على أن يمزق نفسه كل ساعة من الساعات الأربع والعشرين. وفي النهاية يصير في أقصى انفعاله وهياجه العصبي . ويتبع هذا حدوث مشهد مخيف، فاذا وقف أحد في طريقه ، فأنه كان يندفع مزمجرا الى اللوحة بكل مالديه من قوة . ولا يهمه ما تستغرق من وقت حتى تنتهى . فكانت لديه دائما العزيمة الكافية للعمل حتى أخر قطرة من اللون . ولاشئ يمكن ان يوقفه قبل أن ينتهي منها تماما.
وحالما كانت تنتهي اللوحة ينهار ويسقط متهالكا وتخور قواه ويصاب بالمرض ويبداء في الهذيان . وتمضي أيام وهو مريض حتى يستعيد صحته يرى أو يشم رائحة الطلاء . وفي بطء شديد تعود له قواه . وفي صحوته قد يستعيد اهتمامه ويروح يتجول في الاستديو ينظف الأشياء او يتمشى في الحقول . وفي مبداء الأمر لا يرى شيئا ، ولكن في النهاية تقع عيناه على بعض المناظر وعندئذ تبداء الدورة مرة أخرى .
وأقترن فنسنت بكريستين لفترة طويلة من الحياة بغير زواج، ولكنها لم تكن تفهم الا قليلا مما كان فنسنت يعمله ، وكانت تعتقد أن نهمه في تصوير الاشياء ضرب من الأفكار الثابتة التى تكلف غاليا وأدركت أن الرسم هو الصخرة التي بنيت عليها حياته ، ولم تبذل أية معارضة . والنتيجة أن التقدم البطئ والتعبير الأليم في عمله لم يعقها عن معاشرته، فقد كانت كريستين رفيقة طيبة لأغراض الحياة المنزلية العادية ، ولكن الحياة العادية المنزلية لم تكن تحتل الا جزاء ضئيلا من حياة فنسنت.
وعندما كان فنسنت يضطر الى العمل بالبيت من الصباح حتى يرخى الليل سدوله، كان من الصعب ان يحافظ على علاقة مرضية معها ، وعاد يرسم من جديد وكان يوفر من النقود التى يصرفها على الألوان . ولكن الموديلات كانت تلتهم ماله على حساب بيته وأسرته. فقد كان الناس الذين يقبلون أن يعملوا لقاء أجر زهيد في أسوأ نوع من الاعمال الحقيرة يطلبون مبلغا كبيرا لا لشئ الا ليحضرو ويجلسوا أمامه. وطلب فنسنت الأذن بالرسم في مصلحة الأمراض العقلية ولكن السلطات صرحت له بأن هذا الأمر لا سابقة له عندهم ولهذا فأن لم يستطع أن يرسم هناك الا في أيام الزيارة.
وعندما ساءت حال فنسنت المالية والنفسية وقد وجد حياته مع كريستين أصبحت مستحيلة ،قرر العودة الى وطنه . فقد كان مريضا يتضور جوعا ، وكانت أعصابه مهدمة ، كما كان منهوك القوى خائر العزيمة. وهو سوف يعود الى وطنه ليرى أمه ويقضي ببيته بضعة أسابيع ليسترد فيها صحته وروحه المعنوية . وخامره أحساس بالطمانينة لم يعرفه منذ شهور طويلة عندما فكر في ريف بلده وأسوار النباتات الشوكية وصحبته كريستين وطفلاها الى المحطة ووقفا جميعا على الرصيف وقد عجزو عن الكلام وأقبل القطار وأستقله فنسنت وبعد عنهم الى الابد.
وفي أحضان أسرته لم يكن  يتناول طعامه مع أفرادها على نفس المائدة ، بل كان يتناوله في أحد الاركان واضعا الطبق في حجره ، بينما كانت الرسوم التي أنجزها في يومه ملقاة على مقعد أمامه ، وكان يتفحص رسومه بعينين نفاذتين ويمزقها أربا اربا اربا اذا ما عثر فيها على أى خطاء . ولم يكن يتحدث أبدا الى أفراد أسرته وكانو بدورهم نادرا ما يخاطبوه.
وبعد بضعة أسابيع من وجوده في بلدته أخذ يخامره شعور بأن الناس من حوله يراقبون حركاته بل ويقتفون أثره ، وفي بداية أحساسه بها الشعور حاول أن يتخلص منه، ولكنه لم يتمكن من ذلك ولكأن عيون الناس كانت تخترق ظهره بنظراتها الحادة ، وكثيرا ما كان يرى أشباحا لا وجود لها .وفي أحدى المرات خيل اليه أنه لمح طرف الثوب الأبيض لامرأة وهى تتوارى خلف شجرة . وفي مرة أخرى وبينما كان خارجا من بيت أحد النساجين رأى شبحا يسرع في الطريق، ومرة ثالثة أيضا وبينما كان يرسم في الغابة ترك حامل صوره وسار الى الغدير ليشرب. وعندما عاد وجد بصمات على اللون الذى لم يجف.
كان الشبح الذي لمحه فنسنت حقيقيا. أنها أحدى فتيات البلدة التى أعجبت برسمه وأسمها مارجو . بيد أن فنسنت لم يحس نحوها بمثل ما كانت تحس به من حب نحوه، وكانت القرية تحب مارجو ولكنها كانت لاتأمن جانب فنسنت وتتوجس منه خيفة. وحاولت والدة مارجو وشقيقاتها الأربع فصم هذه العلاقة ولكن دون جدوى .
ولم يفهمه فنسنت مطلقا لماذا كان أهل البلدة يكرهونه الى هذا الحد ، فهو لم يتدخل في شئون أحد ولم يؤذ أحدا. وكان بين أهل القرية وبين فنسنت ود مفقود لأنهم كانو لايثقون به ولأنهم عجزوا عن فهم أسلوبه في الحياة . وأستطاع هو أن يحس بكراهيتهم تحيط  به من كل جانب فقد كانوا يديرون له ظهورهم عندما يقترب منهم ، ولم يقبل أحد ان يتحدث إليه أو يزوره وأصبح واحدا من المنبوذين.
فقد فنسنت الرغبة في إقامة أية علاقات إجتماعية بالآخرين. وكان الوقت الوحيد الذي يشعر فيه بالحياة هو ذلك الوقت الذي كان يكدح فيه في عمله . أما عن حياته الشخصية ، فلم تكن له حياة بمعنى الكلمة . فقد كان مجرد آلة متحركة عمياء يصب فيها طعاما وشرابا وألوانا فتخرج عند مغيب الشمس لوحات مرسومة . ولكن لأى غرض وبأى ثمن ؟ مقابل لاشئ بكل تأكيد .لقد كان يعلم أن أحد لا يريد شراء لوحاته . أذن لماذا العجلة ؟ ولماذا يدفع بنفسه ويثير انفعالاته لكى يرسم عشرات وعشرات من اللوحات حتى أصبح الفراغ الذي تحت سريره النحاسي ممتلئا باللوحات؟
لقد هجرت رغبة النجاح فنسنت. فقج كان يعمل لأنه يحب أن يعمل . ولأن هذا كان يحميه من آلآم عقلية ولأن هذا كان يشتت أفكاره القاتمة وذهنه المريض. أنه يستطيع أن يحيا بلا حب وبلا صداقة وبلا صحة ، ولكنه لايستطيع أن يحيا بلا فرشاة في يده.
وأقام فنسنت مع فنان أخر هو جوجوين وقد كانا يرسمان طوال النهار ، ثم يتصارعان طوال الليل ، لاينامان مطلقا ويأكلان قليلا.وفي  إحدى الليالى ذهبا الى المقهى وطلب فنسنت قدحامن الجعة المخففة، وفجأة ألقى بالكوب وبما يحتوى الى رأس جوجوين ،فتفاداه جوجوين وحمل صديقه الى البيت والقى به على السرير ولكن جوجوين كان يحب فنسنت من جهة ،ويود مغادرته في الوقت نفسه خوفا من اندفاعاتهمن جهة أخرى . ولكن فنسنت كان يتوسل اليه تارة،ويتملقه تارة أخرى ، أو يلعنه ويهدده تارة ثالثة بل أنه كان يبكى نادما على ماصدر منه تجاهه في بعض الأحيان.
وفى أحدى الليالى هاجم فنسنت صديقه فلاذ الأخير بالهرب منه،فتوجه الى حجرته وتناول المرآة ووضعها على منضدة الزينة وأسندها الى الحائط وقام بقطع أذنه بالموسى ثم التقطها وغسلها ولفها فى بعض الأوراق التى كان يستخدمها في الرسم عليها.
ظل فنسنت بالمستشفى بعد قطع اذنه فترة طويلة وقد كان يرسم خلالها أزهار وورود حديقتها. وفي النهاية عاد الى بيته ولكن السكان المجاورين وأطفالهم كانوا يشيعونه بالسخرية والاستهزاء كلما مر أمامهم. ولقد فقد أعصابه مرة أخرى بعد أن طارده الاطفال فجرى الى حجرته وظل يلقى بالاكواب والكراسي وكل شئ يستطيع حمله والالقاء به من الشباك .
ودخل فنسنت أحدى المصحات العقلية وظل بها بضعة أشهر ثم خرج منها ليستعيد نشاطه مرة ، وليرتمى في أحضان اليأس مرة أخرى.
وفي نهاية المطاف وقف بأحد الحقول وأدار وجهه لشمس وضغط بالمسدس على صدغه وجذب الزناد فخرجت الرصاصة لتقتله، فسقط ميتا على وجهه في طين الحقل ، وكانت هده نهاية عبقرية مجنونه ولدت مع هذا المصور في عام 1853 وأنطفأت في عام 1890.




من كتاب ( سيكولوجية الابداع في الفن والأدب) ل يوسف ميخائيل أسعد 
دار الشؤون الثقافية العامة .آفاق عربية. العراق -بغداد - سبتمبر 1984 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق